فصل: تفسير الآيات رقم (90- 91)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إن‏}‏‏:‏ ناصبة مؤكدة، وخبرها‏:‏ جملة ‏{‏مَن آمن‏}‏ أو ‏{‏فلهم أجرهم‏}‏‏.‏ و‏{‏مَن آمن‏}‏‏:‏ بدل من اسمها، أو محذوف، والموصول‏:‏ مبتدأ؛ أي‏:‏ إن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين هادوا كذلك‏.‏ و‏{‏هادوا‏}‏‏:‏ تهودوا، أي‏:‏ دخلوا في اليهودية‏.‏ وسمّوا يهوداً؛ إما نسبة لأبيهم الأكبر ‏(‏يهوذا بن يعقوب‏)‏، أو مِنْ هَادَ، إذَا تَابَ؛ لأنهم تابوا من عبادة العجل‏.‏

والنصارى‏:‏ جمع نصران، وسُموا بذلك إما لنصرهم المسيح عليه السلام، أو لسكناهم معه في قرية يقال لها‏:‏ ‏(‏نصران‏)‏، والصابئون‏:‏ طائفة من أهل الكتاب، خرجوا عن دين اليهودية وعبدوا الكواكب، يقال‏:‏ صبا يصبو، إذا مال وخرج من دين إلى دين‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا بموسى، والذين آمنوا بعيسى- عليهما السلام-، والذين خرجوا عن دينهم وصبوا، ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ‏}‏ وتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وعمل بشريعته، ‏{‏فلهم أجرهم عند ربهم‏}‏ إذا قدموا عليه بالنعيم المقيم، والنظر إلى وجهه الكريم، ‏{‏وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم‏}‏ حين يخاف الكفار، ‏{‏وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ حين يحزن المفرطون والأشرار؛ إذ لا يلحقهم وبال ولا يفوتهم نوال‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الذين آمنوا إيماناً لا يختلجه وهم، ولا يطرق ساحته شك ولا ريب، إما عن برهان قاطع، أو عن شهود ساطع، والذين تابوا عن هواجس الخواطر وغفلات الضمائر، والذين نصروا الدين، وشيّدوا منار شريعة المسلمين، والذين صبوا إلى الحبيب، ومالوا عن كل بعيد وقريب، فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله العناية، وهبت عليهم ريح الهداية، جمعوا بين تزيين البواطن بأنوار الإيقان، وتزيين الظواهر بأنواع الطاعة والإذعان، فلا جرم أنهم، إذا قدموا على ربهم، أجلَّ منصبهم، وأجزل ثوابهم، وأعلى مقامهم، فأولئك اولياء الله الذين ‏{‏لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏‏.‏

فالمخصوصون بالعناية أربعة‏:‏ قوم أقامهم الحق تعالى لتنمية الإيمان وتربية الإيقان، إما عن دليل وبرهان- وهم أهل النظر والاعتبار،- وإما عن شهود وعيان- وهم أهل الشهود والاستبصار-، وقوم أقامهم الحق تعالى لتصفية نفوسهم وتزكية أحوالهم بالتوبة، والإقلاع عن كل وصف مذموم، وهم السائرون والطالبون، وقوم أقامهم لنصر الدين وإظهار شريعة المسلمين، إما بتقرير قواعده أو جهاد معانده، وهم العلماء والمجاهدون، وقوم أقامهم لخدمته، وملأ قلوبهم بهيبته، وهم العُباد والزهاد، مالوا عن الشهوات وتأنسوا به في الخلوات، هجرو الأوطان وفارقوا الأحباب والإخوان، صبوا إلى محبة الحبيب وتلذذوا بمناجاة القريب، فهؤلاء المخصوصون بعين العناية، المحفوظون بغاية الرعاية، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس‏.‏ حققنا الله بمقام الجميع بمنّه وكرمه‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 66‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ حرف امتناع لوجود، تلزم الدخول على المبتدأ، وخبرها واجب الحذف عند سيبويه، أي‏:‏ لولا فضل الله عليكم ورحمته موجودان، وقال الكوفيون، فاعل بمحذوف‏:‏ أي‏:‏ لولا أن ثبت فضل الله عليكم ورحمته، و‏(‏لكنتم‏)‏‏:‏ جوابها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا يا بني إسرائيل حين ‏{‏أَخَّدْنَا مِيثَاقَكُمْ‏}‏ أن تقبلوا تكاليف التوراة، وكانت شاقة عليهم، فلما أبيتم قبولها، قلعنا الطور، ورفعناه فوقكم على مقدار عسكركم، كالظلة، وقلنا لكم‏:‏ ‏{‏خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم‏}‏ من التوراة بجد واجتهاد، ‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏ من الوعظ والتذكير ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ الله، فتفوزون بالخير الكثير، فقبلتم ذلك كرهاً ‏{‏ثُمَّ تَوّلَّيْتُم‏}‏ وأعرضتم بعد لك، فسفكتم الدماء، وقتلتم الأنبياء، ‏{‏فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ بتوفيقكم للتوبة، ‏{‏وَرَحْمَتُهُ‏}‏ بقبولها منكم، فخسرتم الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ‏}‏ ما جرى للذين ‏{‏اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ‏}‏ في زمن داود عليه السلام، وذلك في قرية يقال لها‏:‏ «أيْلة»، كانت على شاطئ البحر، وقد نُهوا عن الاصطياد يوم السبت، فكانت الحيتان تخرج يوم السبت شُرَّعاً، فتُخْرِج خراطيمها للبر، فإذا كان يوم الأحد دخلت في البحر، فحفروا حياضاً، وشرعوا إليها جدوال، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد، فلمَّا لمْ يُعاقبوا على ذلك أحلُّوا يوم السبت، فانقسمت القرية على ثلاث فرق‏:‏ قوم نهوا، وقوم سكتوا، وقوم اصطادوا، فمُسِخ من اصطاد قردة وخنازير؛ الشُّبان قردة، والشيوخ خنازير، فبقوا ثلاثة أيام وماتوا‏.‏ فجعلنا تلك الفعلة التي فعلنا بهم- ‏{‏نَكَالاً‏}‏ وزجراً ‏{‏لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا‏}‏ في زمانها، وما خلفها؛ من يأتي بعدها، ‏{‏وموعظة‏}‏‏:‏ وتذكيراً ‏{‏للمتقين‏}‏ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن المريدين إذا دخلوا في يد شيخ، وأخذوا عنه العهد، حملهم من أعباء التكليف وخرق العائد ما تموت به نفسوهم، وتحيا به قلوبهم، كذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، فإذا هموا بالتقصير، ظلل عليهم جبل همته، وأدار عليهم يد حفظه ورعايته، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن‏:‏ ‏(‏والله لا يكون الشيخ شيخاً حتى تكون يده مع الفقير أينما ذهب‏)‏‏.‏ والمراد باليد‏:‏ الهمة والحفظ، ولا يزال الشيخ يراسلهم بهذه التكاليف، ويحضّهم على الأخذ بها، والاجتهاد في العمل بها، حتى تموت نفوسهم وتحيا قلوبهم، وترسخ معرفتهم، وتكمل تربيتهم، فحينئذٍ ينتقلون إلى روح وريحان في جنات الشهود العيان‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان شيخنا يرسل لنا البطاقات في حال البدايات، فما كانت أفتحها حتى ترتعد نفسي مما فيها، لأنها تعلم أنه ما يُرسل لها إلا ما فيه موتها، فلولا فضل الله علينا ورحمته- حتى قوانا على العمل بما فيها- لكنا من الخاسرين، ولقد أخطأت العناية قوماً، فتعدوا حدود الشيوخ، أو خرجوا عن دائرتهم قبل كمال تربيتهم، فمسخت قلوبهم، وانمحت في ديوان الولاية رسومهم، جعل الله ذلك عبرة لغيرهم، وزاجراً لمن حذا حذوهم، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، وكفران النعم وحرمان الرضى، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 71‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الفارض‏:‏ المسنة التي لا تلد، يقال‏:‏ فرضت البقرة، تفرض فروضاً، إذا أسنت‏.‏ البكر‏:‏ الصغير التي لم تلد، العوان‏:‏ المتوسطة بين المسنة والصغيرة، والفاقع‏:‏ الناصع الصفرة، يقال‏:‏ أصفر فاقع، وأسود حالك، أي‏:‏ شديد السواد، وأصل شية‏:‏ وِشْيَة، كعدة، حذفت فاؤها وعوض عنها التاء، والوشي‏:‏ الرقم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا يا بني إسرائيل حين ‏{‏قال موسى لقومه‏}‏ لما تخاصموا إليه في قتيل وجد في قرية ولم يدر قاتله، وذلك أن رجلاً فقيراً من بني إسرائيل قتل قريباً له كان موسراً ليرثه، ثم رماه في قرية أخرى، ثم ذهب يطلب دمه، فترافعوا إلى موسى عليه السلام فقال لهم بوحي‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏، وأبهم الأمر عليهم، ‏{‏قَالُوا أَتَتَّخِذُونَا هُزُواً‏}‏ أي‏:‏ مهزوءاً بنا، حيث نسألك عن بيان القائل وأنت تأمرنا أن نذبح بقرة، وهذا من تعنتهم وسوء أدبهم‏.‏ ‏{‏قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏؛ إذ لا يستهزئ بأمر الدين إلا الجاهل‏.‏

فلما رأوا جدَّه ‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لنَا مَا هِيَ‏}‏، هل هي كبيرة أو صغيرة أو متوسطة‏؟‏ ‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ‏}‏ أي‏:‏ كبيرة، ‏{‏ولا بكر‏}‏ أي‏:‏ ولا صغير ‏{‏عَوَانٌ‏}‏ متوسطة بين ما ذكر من الصغر والكبر، ‏{‏فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ‏}‏، فإن الله يُبين لكم القاتل، ‏{‏يَقِولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءٌ فَاقِعٌ لوْنُهَا‏}‏ ناصع صفرتها ‏{‏تَسُرُّ النَّاظِرِينَ‏}‏ لسمنها وبهجة لونها، ‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ‏}‏، فإن البقر الصفر كثير، وقد تشابه علينا أمرها‏؟‏ ‏{‏قَالَ إِنَّهُ‏}‏ تعالى يقول‏:‏ إنها مسلمة من العمل ليست ذلولاً، أي‏:‏ مذللة بالعمل لا ‏{‏تُثِيرُ‏}‏ أي‏:‏ تقلب ‏{‏الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ‏}‏ بالسانية‏.‏ ‏{‏مُسَلَّمَةٌ‏}‏ من العيوب كلها، ‏{‏لاَّ شِيَةَ فيهَا‏}‏ أي‏:‏ لا رقم فيها يخالف الصفرة‏.‏

فلما تبين لهم الأمر ‏{‏قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ‏}‏ الواضح، فوجدوها عند شاب كان بيد أمه، قد استودعها له أبوه في غيضة، فاشتروها منه بملء جلدها ذهباً، أو بوزنها، ‏{‏فذبحوها‏}‏، وضربوا القتيل بجزء منها، فجلس وعروقه تسيل دماً، وقال‏:‏ قتلني ابن عم لي، ثم رجع، ‏{‏وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ لكثرة ترددهم، أو لفحش غلوها‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لو ذبحوا أدنى بقرة لكفتهم لكن شددوا فشدد الله عليهم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ حق هذه الآية أن تتقدم قبل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 67‏]‏ وإنما أخَّرها الحق تعالى ليتوجه العتاب إليهم مرتين؛ على ترك المسارعة لامتثال أمر نبيهم، وعلى قتل النفس، ولو قدمها لكانت قصة واحدة بتوبيخ واحد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكروا ‏{‏إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً‏}‏ حرصاً على الدنيا ‏{‏فَادَّارَأْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ تدافعتم في شأنها، كل قرية تدفع عنها، ‏{‏والله‏}‏ تعالى ‏{‏مُخْرِجٌ‏}‏ ومبين ‏{‏مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ من القتل، ومن قتله، ‏{‏فَقُلْنَا‏}‏‏:‏ اضربوا القتيل أو قبره ‏{‏بِبَعْضِهَا‏}‏ قيل‏:‏ اللسان، وقيل القلب، وقيل‏:‏ الفخد أو الذنب، فضربوه فحيى، وأخبر بقاتله كما تقدم، ‏{‏كَذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ كما أحيا هذا القتيل، ‏{‏يُحْيِي الله الموتى‏}‏ من قبورها ‏{‏وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ‏}‏ الدالّة على قدرته، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ فتعلمون أن من قدر على إحياء نفس واحد يقدر على إحياء الأنفس كلها‏.‏

واستدلت المالكية بالقصة على التدمية الحمراء، وهي قبول قول القتيل قبل موته بأن فلاناً قتله، وفيه نظر؛ لأن هذا حيى بعد موته فلا يتطرقه الكذب، واستدلت أيضاً على حرمان القتل من الإرث، وفيه نظر؛ لأن هذه شريعة من قبلنا يتطرقها النسخ، لكن ثبت في الحديث أنه لا يرث‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أمر الشيخ المريدين بذبح نفوسهم بخرق عوائدها، فمن تردد منهم في فعل ما تموت به نفسه، كان ذلك دليلاً على قلة صدقه وضعف نهايته، ومن بادر منها إلى قتلها دلّ على صدقه وفلاحه ونجح نهايته، فإذا ماتت النفس بالكلية حييت روحه بالمعرفة والمشاهدة الدائمة، فلا موت بعدها أبداً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى‏}‏ ‏[‏الدّخَان‏:‏ 56‏]‏، وأما الموت الطبيعي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام، ومن وطن ضيق إلى وطن واسع، وأنشدوا‏:‏

لا تظُنُّوا الموتَ موتاً إنهُ *** لَحَيَاةٌ، وَهْو غايةُ المنَى

لا تَرُعْكُم هَجْمَةُ الموتِ فَما *** هُو إلا انْتِقَالٌ مِنْ هنَا

فاخْلَعُوا الأجْسَادَ مشنْ نفُسِكُم *** تُبْصِرُوا الحقَّ عيَاناً بَيِّنَا

قلت‏:‏ والسيف الذي يُجْهز على النفس ويسرع قتلها هو الذل والفقر، فمن ذلّ نفسه بين أبناء جنسه، وخرق عوائد نفسه، وزهد في الدنيا، ماتت نفسه في طرفة عين، وحيِيَتْ روحه، وظفر بِقُرَّةِ العين، وهي معرفة مولاه، والغيبة عما سواه‏.‏

وكمال الوقت في ذبح النفس أن تكون متوسطة بين الصغر والكبر، فإن الصغيرة جدّاً لا يؤمن عليها الرجوع، والكبيرة جدّاً قد يصعب عليها النزوع، كاملة الأوصاف بحسن الزهد والعفاف، تسر الناظرين لبهجة منظرها وحسن طلعتها، وكذلك من كان من أهل الشهود والنظرة، تَسْحَرُ مشاهدة القلوب، ويسوقها بسرعة إلى حضرة علام الغيوب، لما أقيم به من مشاهدته الملكوت، حتى إن من لاحظه تناسى أحوال البشرية، واستولت عيله أنوار الروحانية، وغابت في ذكر الحبيب عن البعيد والقريب، كما في الحديث‏:‏ «أولياُ اللَّهِ مَنْ إذا رُؤوا ذُكر الله»، وتكون أيضاً هذه النفس غير مذللة بطلب الدنيا والحرص عليها، مسلمة لا عيب فيها، ولا رِقَّ لشيء من الأثر عليها، فحينئذٍ تصلح للحضرة، وتتمتع بنعيم الشهود والنظرة، لم يبق لخصم الفَرْقِ معها تدارؤٌ ولا نزاع، بل أقر الخصم وارتفع النزاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ القسوة والقساوة‏:‏ هي الصلابة واليبوسة، كالشقوة والشقاوة، يقال حجر قاس، أي‏:‏ يابس‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وَلاَ أرَى أثراً لِلذِّكرِ في جَسدِي *** والحَبلُ في الجَبَل القاسِي لهُ أثرُ

و ‏{‏أو‏}‏ للإضراب، أو بمعنى الواو، أو للتنويع، فبعضها كالحجارة وبعضها أشد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم‏}‏ يا معشر اليهود، ويبست فلم تلن ولم تخضع، مع ما رأت من الآيات كانفجار الحجر بالماء في التيه، وإنزال المنّ والسلوى، وتظليل الغمام، وإحياء الميت وغير ذلك‏.‏

قال الكلبي‏:‏ ‏(‏أنكروا بعد ما رأوا ذلك، وقالوا‏:‏ ما قتلنا، فما كانوا قد أعمى قلباً، ولا أشد تكذيباً منهم لنبيهم عند ذلك‏)‏ فقلوبهم كالحجارة، بل أشد، أو إن شَبَّهْتم قلوبهم بالحجارة أصبتم، وبما هو أشد أصبتم، بل في الحجارة فضل عليها في اللين، فإن منها ما تتفجر ‏{‏مِنْهُ الأنْهَارُ‏}‏ الكبار، ومنها ما تشقق ‏{‏فَيَخْرُجُ مِنْهُ‏}‏ العيون الجارية، ومنها ما تهبط من رأس الجبل ‏{‏مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏‏.‏ وفي بعض الأخبار‏:‏ «كل حجر تَرَدَّى من رَأسِ جبلٍ فهو من خشية الله»، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير، نسأل الله السلامة بمنَّه وكرمه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن أساء الأدب مع أستاذه، أو خرج عن دائرته إلى غيره، قسا قلبه، وذهب حاله ولُبه، فإن رجع قريباً واستدرك ما فات، لان قلبه ونهض حاله، وإلا وقع في مهاوي القطيعة، ولم يأت منه شيء، وللقلب القاسي علامات‏:‏ منها جمود العين، وطول الأمل، وعدم الحزن على ما فاته من الطاعات وما صدر منه من السيئات، وعدم الفرح بما يصدر منه من الطاعات، فإن المؤمن تسره حسناته وتسيئه سيئاته، ودواؤه‏:‏ صحبة الفقراء الذاكرين الخاشعين، والجلوس بين يدي العارفين الكاملين، وتعاهد الصيام، والصلاة بالليل والناس نيام، والتضرّع إلى الحيّ القيوم الذي لا ينام، وللشافعي رضي الله الله عنه‏:‏

ولَمَا قَسَا قَلْبِي وضَاقَتْ مَذَاهِبي *** جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لعَفْوِك سُلَّمَا

تَعَاظَمنِي ذَنْبي فَلمَّا قَرَنْتُه *** بعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 74‏]‏ كذلك القلوب القاسية إذا لانت بالإنابة إلى ربها، والرجوع عن مألوفاتها، تتفجر منها أنهار العلوم، وتشقق منها أسرار الحِكَم، ومنها من تذوب من هيبة المتجلي لها، فتندك جبالها، وتزلزل أرض نفوسها، كما قال القائل‏:‏

لَو عَايَنتْ عَينَاكَ يومَ تزلزلتْ *** أَرضْ النفُوس ودُكَّتِ الأجْبَالُ

لَرأَيتَ شَمسَ الحقِّ يسطعُ نورُها *** حِينَ التزَلْزلِ، والرجَالُ رجالُ

والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ضمن الإيمان معنى الإذعان والإقرار؛ ولذلك عداه باللام، وجملة ‏{‏قد كان‏}‏ حال من فاعل الإيمان، و‏{‏إذا لقوا‏}‏ عطف على ‏{‏كان‏}‏، والتقدير‏:‏ أفتطمعون في إيمانهم والحالة أن مَن سلف منهم كانوا يُحرفون كلام الله، ومن حضر منهم الآن ينافقونكم في دين الله، فلا مطمع في إيمان مَنْ هذا وصفه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ‏}‏ يا معشر المسلمين أن يذعن لكم أهل الكتاب ويصدقوكم ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ‏}‏، وهم السبعون الذين ذهبوا مع موسى للاعتذار، ‏{‏يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ‏}‏ حين كلّمهم وكلّفهم بمشاق التوراة، فحرفوا وقالوا‏:‏ قال‏:‏ افعلوا ما استطعتم، فإذا لم يحصل لهم الإيمان مع سماع الكلام بلا واسطة، فكيف يؤمن لكم هؤلاء، وهم إنما يسمعونه بواسطة الرسالة‏؟‏ أو ‏{‏يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ‏}‏ في التوراة ثم يحرفونه، محواً أو تأويلاً، كصفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، ‏{‏مِنْ بعْدِ‏}‏ ما فهموه ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنه كلام الله، أو ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم محرفون ومغيرون لكلام الله‏.‏

وكيف تطمعون أيضاً في إيمانهم وهم منافقون‏؟‏ ‏{‏إذَا لَقُوا‏}‏ المؤمنين ‏{‏قَالُوا آمنَّا‏}‏، وصفة نبيكم مذكورة في كتابنا، ‏{‏وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ‏}‏ لامهم مَن لم ينافق، و‏{‏قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ من علم التوراة فتطلعونهم عليه ‏{‏ليُحَاجُّوكُم بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يغلبوكم بالحجة ‏{‏عِنْدَ رَبِّكُمْ‏}‏ في الدنيا والآخرة، فيقولون‏:‏ كنتم عالمين بنبوة نبينا فجحدتم وعاندتم، ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ حتى تطلعوهم على ما فتح الله به عليكم‏.‏ أو يقول الحق تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ يا معشر المسلمين فتطمعون في إيمانهم بعد هذه الخصال التي فيهم، قال الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ‏}‏ لا يخفى عيله شيء، بل ‏{‏يَعْلَمُ‏}‏ ما يسرونه وما يعلنونه، فيجازيهم على ما أخفوا وما أعلنوا‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن سبقت له المشيئة بالخذلان، وحكم عليه القدر والقضاء بالحرمان، يرجع إلى الدليل والبرهان، بعد الاستشراف على الشهود والعيان، فيرجع إلى مشاهدة الآثار والرسوم، وينسى ما كان يعهده من دقائق العلوم، سبب ذلك كلَّه‏:‏ الإخلال بالأدب مع المشايخ والأصحاب، أو مفارقة الإخوان، وعدم مواصلة أهل العرفان، وضم إلى ذلك الإنكار على أولياء الله، وتحريف ما سمعه منهم من مواهب الله، فلا مطمع في رجوعه وإيابه، وقد بَعُد من الفتح وأسبابه، لا سيما إذا اتصف بالنفاق، إذا لقي أهل النسبة أظهر الوفاق، وإذا خلا إلى العامة أظهر الشقاق، فمِثلُ هذا لا يرجى له فلاح، ولا يَسعد بصلاح ونجاح‏.‏ نعوذ بالله من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أماني‏:‏ جمع أمنية، وهي في الأصل‏:‏ ما يُقَدِّرُهُ الإنسان في نفسه من مُنى إذا قدَّر، ولذلك تطلق على الكذب، وعلى ما يتمنى وما يقرأ، قاله اليضاوي‏.‏ والاستثناء منقطع، أي‏:‏ لكن أكاذيب، ويقال‏:‏ تمنى الرجل، إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏والله ما تَمنَّيْتُ ولا تَغَنَّيْتُ منذُ أَسْلَمْتُ‏)‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من اليهود عوام ‏{‏أُمِّيُّونَ‏}‏ لا يقرؤون الكتاب ولا يفهمونه، لكن يسمعون من أحبارهم ‏{‏أَمَانِيَّ‏}‏ كاذبة، وأشياء يظنونها من الكتاب، ولا علم لهم بصحتها، كتغيير صفته صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، أو مواعيد فارغة، ومطامع خاوية، سمعوها منهم، من أن الجنة لا يدخلها إلا هم، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، وغير ذلك من أمنيتهم الفارغة وأمانيهم الباطلة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن المنكرين على أهل الخصوصية ثلاث فرق‏:‏ أهل الرئاسة المتكبرون، والفقهاء، المتجمدون، والعوام المقلدون، يصدق عليهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏}‏؛ إذ لا علم عندهم يُميزون به المحق من المبطل، وإنما هم مقلدون، فوزرهم على مَن حرمهم بركة الاعتقاد، وأدخلهم في شؤم الانتقاد، ولقد أحسن «ابن البنا» حيث قال في شأن أهل الإنكار‏.‏

واعلمْ رعاكَ اللّهُ مِنْ صَديقِ *** أنَّ الورَى حَادُوا عن التحقيق

إذْ جَهِلُوا النفوسَ والقلوبَ *** وطلبُوا مَا لم يكُنْ مَطلُوبَا

واشْتَغَلُوا بعَالَمْ الأبدانِ *** فالكلُّ نساءٍ منْهمُ ودَانِ

وأنكَرُوا مَا جَهِلوا وزَعموا *** أنْ لَيسَ بعدَ الجسمِ شَيْءٌ يُعلمُ

وكفَّرُوا وزندقُوا وبدَّعُوا *** إذَا دَعَاهُم اللَّبِيبُ الأوْرَعُ

كلٍّ يرى أنْ لَيسَ فوقَ فَهْمِهِ *** فَهْمٌ ولاَ عِلْمٌ وراءَ عِلْمِهِ

مُحْتَجِباً عَنْ رؤيةِ المَراتبْ *** عَلّ يُسْمَى عَالماً وَطالبِ

هَيْهَاتَ هذا كُلَّه تقْصِيرُ *** يأنَفُهُ الحَاذقُ والنَّحْرِيرُ

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ويل‏}‏‏:‏ كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصلها العذاب والهلكة، وهو في الأصل مصدر لا فعل له، وسوغ الابتداء به الدعاء، وقال أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الويلُ وادٍ في جَهنَّم» ‏[‏لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ تحريفاً لكتاب الله، ‏{‏وَيقُولُونَ هَذَا مِنْ عند الله‏}‏ خوفاً من أن تزول رئاستهم، وينقطع عنهم ما كانوا يأخذونه من سفلتهم، نزلت في أحبار اليهود لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، خافوا أن تزول رئاستهم، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإسلام، وكانت صفة النبي صلى الله عليه وسلم «حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العينين، ربعة»، فغيروها، وكتبوا‏:‏ طوالاً، أزرق، سبط الشعر، ‏{‏فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏، ويأخذون من سفلتهم، فهو وإن كان كثيراً في الحسن فهو، بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الأليم، قليل‏.‏

الإشارة‏:‏ ينزجر بهذه الآية صنفان‏:‏ أحدهما‏:‏ علماء الأحكام، إذا أفتوا بغير المشهور، رغبة فيما يقبضون على الفتوى من الحطام الفاني، وكذلك القضاة إذا حكموا بالهوى، رغبة فيما يقبضون من الرشا، أو يحصلونه من الجاه، ‏{‏فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ الثاني‏:‏ أهل الرئاسة والجاه من أولاد الصالحين وغيرهم، فإنهم إذا رأوا أحداً قام بولاية أو نسة خافوا على زوال رئاستهم، فيحتالون على الناس بالتعويق عن الدخول في طريقته، فيكتبون في ذلك سفسطات وترهات، يُنفِّرون الناس عن اتباع الحق، ‏{‏وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 32‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏80‏)‏ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏81‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏‏:‏ حرف جواب كنعم، والفرق بينهما أن ‏{‏بلى‏}‏ لا يقع إلا في جواب النفي ويصير إثباتاً، تقول‏:‏ ألم يأت زيد‏؟‏ فتقول‏:‏ بلى‏.‏ أي‏:‏ أتى، ومثله‏:‏ ‏{‏قالوا لن تمسنا النار‏}‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي تمسكم، بخلاف نعم؛ فإنها لتقرير ما قبلها نفياً أو إثباتاً، فإذا قيل‏:‏ ألم يأت زيد‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم، أي لم يأت، وإذا قيل‏:‏ هل أتى زيد فقلت‏:‏ نعم، أي أتى‏.‏ وقد نظم ذلك بعضهم فقال‏:‏

«نعَمْ» لتقرير الذي قبلها *** إثباتاً أو نفياً، كذا قرَّرُوا

«بلى» جواب النفي لكنه *** يصير إثباتاً، كذا حرَّرُوا

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا‏}‏ أي‏:‏ بنو إسرائيل في أمانيهم الباطلة‏:‏ ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً‏}‏ أربعين يوماً مقدار عبادة العجل، ثم يخلفنا فيها المسلمون‏.‏ قال الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏أَتَّخَذْتُمْ‏}‏ بذلك عهداً عند الله ‏{‏فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏- ‏{‏بَلَى‏}‏ تمسكم النار وتخلدون فيها؛ لأن ‏{‏مَن كَسَبَ سَيِّئَةً‏}‏ أي‏:‏ كفراً ومات عليه، ‏{‏وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ‏}‏ أي‏:‏ أحدقت به، واستولت عليه، ‏{‏فأوْلَئِكَ أَصْحَابَ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏- ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وعلموا‏}‏ بشريعته المطهرة الأعمال ‏{‏الصالحات‏}‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالدُونَ‏}‏ هذه عادته تعالى؛ إذا ذكر فريقاً شفع بضده ترغيباً وترهيباً وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون‏:‏ سمعنا من سيدي فلان يقول‏:‏ مَن رآنا لا تمسه النار‏.‏ وهذا غلط وغرور، وقد قال- عليه الصلاة والسلام- لابنته‏:‏ «يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شيئاً، اشترِيِ نفسك من الله» وقال للذي قال‏:‏ ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة فقال له‏:‏ «أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود» نعم، هذا المقالة‏:‏ إن صدرت من ولي متمكن مع الله فهي حق، لكن بشرط العمل ممن رآه بالمأمورات وترك المحرمات، فإن المأمول من فضل الله، ببركة أوليائه، أن يتقبل الله منه أحسن ما عمل، ويتجاوز عن سيئاته، فإن الأولياء المتمكنين اتخذوا عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده؛ وهو أن من تعلق بهم وتمسك بالشريعة شفعوا فيه‏.‏

والغالب على مَن صَحِبَ أولياء الله المتمكنين- الحفظ وعدم الإصرار، فمن كان كذلك لا تمسه النار، وفي الحديث‏:‏ «إذَا أحَبَّ اللّهُ عَبْداً لَمْ يضرُّه ذَنْب»، يعني‏:‏ يُلهم التوبة سريعاً، كما قيل لأهل بدر‏:‏ «افْعلُوا مَا شِئْتُم فَقَدْ غَفَرتْ لَكُم»‏.‏ ولا يتخذ عند الله العهد إلا أهل الفناء والبقاء، لأنهم بالله فيما يقولون، فليس لهم عن أنفسهم إخبار، ولا مع غير الله قرار، وأما من لم يبلغ هذا المقام فلا عهد له؛ لأنه بنفسه، فمن تعلّق بمثل هذا فهو على خطر، وبالله التوفيق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى من كسب سيئة‏}‏، من اقتنى حب الدنيا أحاطت به أشغالها وعلائقها، فهو في نار القطعية مقيم، أحاط به سرادق الهموم والأكدار، تلدغه عقارب الشكوك والأغيار، بخلاف من أشرفت عليه أنوار الإيمان، وصحب أهل الشهود والعيان، فإنه في روح وريحان وجنة ورضوان، متعنا الله بذلك في الدارين‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لا تعبدون‏}‏‏:‏ خبر في معنى النهي، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 282‏]‏، وهو أبلغ من صريح النهي، لما فيه من إيهام أو المنهي سارع إلى الانتهاء، وقيل‏:‏ حُذفت «أن»، وارتفع المضارع، وهو على حذف القول، أي‏:‏ وقلنا لهم‏:‏ لا تعبدون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيب‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكروا إذ أخذنا الميثاق على بني إسرائيل وقلنا لهم‏:‏ لا يتصوّر منكم شرك معي ولا ميل إلى غيري، فلا تعبدوا إلا إياي، وأحسنوا ‏{‏بالوالدين‏}‏ إحساناً كاملاً، وأحسنوا ‏{‏وذي الْقُرْبَى‏}‏ نسباً وديناً، وأحسنوا باليتامى ‏{‏وَالْمَسَاكِينِ‏}‏، بالمواساة والملاطفة، ‏{‏وَقُولُوا لِلنَّاسِ‏}‏ قولاً ‏{‏حُسْناً‏}‏ أو ذا حسن، وهو ما لا لغو فيه، ولا تأثيم بل ما فيه نصح وإرشاد، ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ بإتقان شروطها وكمال آدابها، وأدوا ‏{‏الزَّكَاةَ‏}‏ لمستحقها، ‏{‏ثُمَّ‏}‏ بعد ذلك ‏{‏تَوَلَّيْتُمْ‏}‏، وأعرضتم ‏{‏إلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ممن أسلم ‏{‏مِّنكُمْ وَأَنتُم مُعْرِضُونَ‏}‏ عن الحقّ ظهوره‏.‏

ذكر الحق تعالى في هذا العهد أربعة أعمال‏:‏ عمل خاص بالقلب، وهو التوحيد، وعمل خاص بالبدن، وهو الصلاة، وعمل خاص بالمال، وهو الزكاة، وعمل عام وهو الإحسان، ورتَّبها باعتبار الأهم فالأهم، فقدّم الوالدين لتأكيد حقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلّة حيلتهم، ثم المساكين لضعفهم، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل عهد أخذ على بني إسرائيل يؤخذ مثله على الأمة المحمدية، وهذا حكمة ذكر قصصهم لنا، وسرد مساؤئهم علينا؛ لنتحرز من الوقوع فيما وقعوا فيه، فنهلك كما هلكوا، وكل عهد أخذ على العموم باعتبار الظاهر يؤخذ مثله على الخصوص باعتبار الباطن، فقد أخذ الحق سبحانه العهد على المتوجهين إليه ألا تتوجه همتهم إلا إليه، ولا يعتمدون بقلوبهم إلا عليه، وأن يتخلقوا بالإحسان، مع الأقارب والأجانب وكافة الإخوان، وخصوصاً الوالدين من قِبل البشرية أو الروحانية، وهم أهل التربية النبوية، فحقوق أب الروحانية تُقدم على أب البشرية، لأن أب البشرية كان سبباً في خروجه إلى دار الفناء والهوان، وأب الروحانية كان سبباً في دخوله إلى رَوْحٍ وريحان‏.‏

وأخذ العهد على المتوجهين أن يكلموا الناس بالملاطفة والإحسان، ويرشدوهم إلى الكريم المنان، ويقيموا الصلاة بالجوارح والقلوب، ويؤدوا زكاة نفوسهم بتطهيرها من العيوب، فمن تولّى بعد ذلك فأولئك الفاسقون، وعن دائرة الولاية خارجون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏84‏)‏ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء‏}‏ ‏{‏أَنتُمْ‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏هَؤُلاء‏}‏‏:‏ خبر، و‏{‏تَقْتُلُون‏}‏‏:‏ حال، كقولك‏:‏ أنت ذلك الرجل الذي فعلت كذا وكذا، أو ‏{‏هَؤُلاءِ‏}‏‏:‏ بدل، و‏{‏تَقْتُلُونَ‏}‏‏:‏ خبر أو منادي، أي‏:‏ يا هؤلاء، أو منصوب على الاختصاص، والْعُدْوَانِ‏:‏ الإفراط في الظلم، و‏{‏أُسَارَى‏}‏ حالٌ، جميع أسير، ويجمع على أًسرى، وقرئ به؛ أي‏:‏ مأسورين‏:‏ و‏{‏هُوَ‏}‏ ضمير الشأن، و‏{‏مُحَرَّمٌ‏}‏ خبر، و‏{‏إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ مبتدأ مؤخر، أو ضمير الإخراج فيكون مبتدأ، و‏{‏مُحَرَّمٌ‏}‏ خبره، و‏{‏إِخْرَاجُهُمْ‏}‏ بدل من الضمير، وهذه الجملة متصلة بقوله‏:‏ ‏{‏وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان‏}‏، وما قبلها اعتراض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكروا أيضاً ‏{‏إِذْ أَخْذْنَا ميثَاقَكُمْ‏}‏ وقلنا لكم‏:‏ ‏{‏لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يسفك بعضكم دم بعض، ‏{‏وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يخرج أحدكم أخاه من داره ويجليه عنها، وجعلهم الحق نفساً واحدة، وذلك هو في الحقيقة، وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

عُنْصُرُ الأنفاسِ مِنَّا واحِدٌ *** وكّذا الأجْسَامُ جِسْمٌ عَمَّنَا

‏{‏ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ‏}‏ بهذا العهد والتزمتموه لأنفسكم ‏{‏وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ على أنفسكم بذلك، ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ‏}‏ يا ‏{‏هَؤُلاءِ‏}‏ اليهود ‏{‏تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يقتل بعضكم بعضاً، ‏{‏وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ‏}‏ إجلاءً عنها، تتغالبون ‏{‏عَلَيْهِم‏}‏ بالظلم والطغيان، ‏{‏وَإِن يَأتُوكُمْ‏}‏ مأسورين تفدوهم بمالكم، وذلك الإخراج محرم عليكم‏.‏

وحاصل الآية‏:‏ أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل العهد في التوراة ألا يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبدٍ أو أمَةٍ وجدتموه من بني إسرائيل أسيراً فاشتروه بما كان من ثمنه واعتقوه، فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون في الحرب فيُعين بنو قريظة حلفاءهم الأوس، فيقاتلون بني النضير في قتالهم مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب، فقالوا‏:‏ تقاتلونهم وتفدونهم‏؟‏‏!‏ فيقولون‏:‏ قد أمرنا أن نفديهم وحُرم علينا قتالهم، قالوا‏:‏ فلم تقاتلونهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنا نسْتحي أن يُذَل حلفاؤنا، فوبخهم الله على ذلك، فقال‏:‏

‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَاب‏}‏ وهو الفداء ‏{‏وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ وهو القتل والإخراج‏؟‏ ‏{‏فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ‏}‏ أي‏:‏ ذل وهوان ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏، وهو السبي والقتل لبني قريظة، والجلاء والإخراج من الوطن لبني النضير، أو الذل والجزية للفريقين إلى يوم القيامة، ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ‏}‏‏.‏ وليس ما أصابهم تكفيراً لذنوبهم، بل نقمة وغضباً عليهم، ‏{‏وَمَا اللَّهُ بِغَافلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس على قسمين‏:‏ قوم ضعفاء تمسكوا بظاهر الشريعة ولم ينفذوا إلى باطنها، ولم يقدروا على قتل نفوسهم، ولا على الخروج من وطن عوائدهم، فيقول لهم الحق جلّ جلاله‏:‏ لا تسفكوا دماءكم في محبتي؛ لأنكم لا تقدرون على ذلك، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم في سياحة قلوبكم، فقد أقررتم بعجزكم وضعفكم، ويقول للأقوياء‏:‏ ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم في طلب معرفتي، وتخرجون فريقاً منكم من ديار عوائدهم في طلب مرضاتي، تتعاونوا على نفوسكم بالقهر والغلبة، وكذلك ورد في بعض الأخبار‏:‏ ‏(‏أول ما يقول الله للعبد‏:‏ اطلب العافية والجنة والأعمال وغير ذلك، فإن قال‏:‏ لا، ما أريد إلا أنت، قال له‏:‏ من دخل في هذا معي فإنما يدخل بإسقاط الحظوظ، ورفع الحدث، وإثبات القدم، وذلك يوجب العدم‏)‏ وأنشدوا‏:‏

منْ لَم يَكُن فَانِياً عَنْ حَظِّهِ *** وَعِنِ الفَنَا والأُنسِ بالأحْبَابِ

فلأَنَّهُ بَيْنَ المنَازِل واقفٌ *** لِمنَالِ حَظّ أَوْ لُحُسْنِ مَآبِ

ويقول أيضاً للأقوياء الذين قتلوا أنفسهم وخرجوا عن عوائدهم‏:‏ وإن يأتوكم أسارة في أيدي نفوسهم وعوائدهم، أو في طلب الدنيا وشهواتها، تفدوهم من أسرهم، وتفكوهم من قيودهم، وتدخلوهم في حضرة مولاهم، وفي بعض الآثار‏:‏ ‏(‏طالب الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير‏)‏ ه‏.‏ والأمير هو الذي يفك الأسارى من أيدي العدو، لأجل ما ملكه الله من القوة والاستعداد، فإذا انفك العبد من هواه، دخل في حضرة مولاه، فمن رام إخراجه منها بعد دخوله يقال له‏:‏ وهو محرم عليكم إخراجهم، فكيف تؤمنون بظاهر الشريعة وتنكرون علم الطريقة، وأنوار الحقيقة‏؟‏ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا وهو الحرص والطمع، والخوف والجزع وطول الأمل، وعدم النهوض إلى العمل، ‏{‏ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب‏}‏، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، ‏{‏وما الله بغافل عما يعملون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 86‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ‏}‏ الناقصون للعهود المتعدون الحدود ‏{‏اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏ وزخارفها الغرارة ‏{‏بالآخِرَةِ‏}‏ الباقية الدائمة، ‏{‏فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ‏}‏ ساعة الدنيا بالذل والهوان، وفي الآخرة بدخول النيران، ‏{‏وَلا هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ بالامتناع منه في كل أوان‏.‏

الإشارة‏:‏ أولئك الذين نظروا إلى غرة ظاهرة الأكوان، ولم ينفذوا إلى عبرة باطنها، فلا ينقطع عنهم عذاب الوهم والحجاب، ولا هم ينصرون من أليم العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قفينا‏}‏‏:‏ أتبعنا، و‏{‏عيسى‏}‏ عجمي معدول عن أيشوع في لغة السريانية، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، و‏{‏مريم‏}‏‏:‏ بمعنى الخادم، ووزنه‏:‏ مَفْعَل لا فعيل، و‏{‏أيدناه‏}‏ أي‏:‏ قويناه ونصرناه، و‏{‏روح القدس‏}‏ هنا جبريل عليه السلام أي‏:‏ الروح المقدسة- من إضافة الموصوف إلى الصفة، سمي به لطهارته من كدر الحس‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى‏}‏ التوراة، فما قمتم بحقها ولا عملتم بما فيها، واتبعنا بعده الرسل كلما مات رسول بعثنا بعده آخر اعتنا بكم، ‏{‏وَآتَيْنَا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ المعجزات الواضحات كإحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص، والإخبار بالمغيبات، والإنجيل، ‏{‏وَأَيَّدْنَاهُ‏}‏ بجبريل عليه السلام كان يسير معه حيث سار، ورفعه إلى السماء حين أردتم يا معشر اليهود قتله، ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنفُسُكُمُ‏}‏ من مشاق الطاعات وترك الحظوظ والشهوات، ‏{‏اسْتَكْبَرْتُمْ‏}‏ وامتنعتم من الإيمان به ‏{‏فَفَرِيقاً‏}‏ منهم كذبتموه كعيسى وسليمان ومحمد- عليهم السلام-، ‏{‏وَفَرِيقاً‏}‏ تقتلونه كزكريا ويحيى- عليهما السلام-‏؟‏ قال القشيري‏:‏ أصْغَوْا إلى الداعين بسمع الهوى، فصار معبودهم صفاتهم وهواهم‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما قاله الحق جلّ جلاله لبني إسرائيل في فحوى الخطاب يقوله لهذه الأمة في سرّ الخطاب، فلقد آتانا الكتاب، وبيَّن فيه الرشد والصواب، وقفَّى بعد إنزاله بعلماء أتقياء، وأولياء أصفياء، يحكمون بحكمه، ويهدون بهديه، فإذا أمروا بالزهد في الدنيا وترك الحظوظ والهوى رفضوهم وكذبوهم، وربما كفَّروهم وقتلوهم، واستكبروا عن الأذعان لهم والانقياد لقولهم، ففريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون‏.‏

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَتَتَّبِعُنّ سُنَنَ مَنح قَبلكمُ شِبراً بشِبرٍ وذَراعاً بذراعٍ، حتى لَو دَخلُوا جُحْرَ لدَخَلْتُموه»، فقالوا‏:‏ مَن يا رسول الله اليهودُ والنصارى‏؟‏ قالَ‏:‏ «نعم‏.‏‏.‏‏.‏ ومَنْ إذن‏؟‏» أي‏:‏ ومَن تتبعون إلا هم‏.‏ فالدعاة إلى الله لا ينقطعون ما دام الدين قائماً، فقوم يدعون إلى أحكام الله، وقوم يدعون إلى معرفة الله، فالأول‏:‏ العلماء، والثاني‏:‏ الأولياء، فإذا أمروا بالخروج عن العوائد والشهوات، رموهم بسهام العتاب والمخالفات، إذ لم يأت أحد بمثل ما جاءوا به إلا عودي، إلا من خصته سابق العناية، وهبت عليه ريح الهداية، فيتبع آثارهم، وقليلٌ ما هم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏غُلف‏}‏‏:‏ جمع ألف، كأحمر وحُمْر، وأصفر وصُفْر، وهو الذي عليه غشاوة، أي‏:‏ هي في غلاف؛ فلا تفقه ما تقول، بمنزلة الأغلف، وهو غير المختون، وقيل‏:‏ أصله ‏{‏غُلُف‏}‏ بضم اللام، وبه قرأ ابن محيصن‏.‏ فيكون جمع غلاف، كحجاب وحجب، وكتاب وكتب، ومعناه، قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك‏.‏ و‏{‏قليلاً‏}‏ صفة لمحذوف؛ أي‏:‏ فإيماناً قليلاً، أو عدداً قليلاً يؤمنون، أو ظرف؛ لأنه من صفة الأحيان، والعامل فيه ما يليه، و‏{‏ما‏}‏ لتأكيد القلة، أي‏:‏ في قليل من الأحيان يؤمنون، أو حال من الواو في ‏{‏يؤمنون‏}‏ أي‏:‏ فيؤمنون في حال قلتهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ قالت اليهود استهزاء بما تدعوهم إليه‏:‏ ‏{‏قُلُوبُنَا‏}‏ مغلفة ومغشاة فلا نفقه ما تقول، أو أوعية للعلوم فلا تحتاج إلى علمك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ لا غطاء على قلوبهم حساً، بل هي على الفطرة لكن ‏{‏لعنهم الله‏}‏ وطردهم وخذلهم بسبب ‏{‏كُفْرِهِمْ‏}‏ فأبطل استعدادها للعلم، ‏{‏فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ فإيماناً قليلاً يؤمنون كإيمانهم ببعض الكتاب، أو فلا يؤمن إلا قليل منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أمر الدعاة إلى الله أهل الدنيا بذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس، ليتأهلوا به لدخول حضرة القدوس، أو أمروهم بخرق العوائد، لتخرق لهم العوائد، أنفوا وعنفوا وقالوا‏:‏ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، فيقال لهم‏:‏ بل سبق لكم من الله البعد والحرمان، فأنكرتم أسباب الشهود والعيان، لكن مَن سبقت له من الله العناية، وهبَّ عليه نسيم الهداية، فلا تضره الجناية، فقد يلتحق بالخصوص، وإن كان من أعظم اللصوص، وهو قليل بالنسبة إلى من جاهد نفسه في طلب السبيل، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لمَّا‏}‏ حرف وجود لوجود إذا وليها الماضي، ولها شرط وجواب، وهو هنا محذوف دلّ عليه جواب ‏{‏لما‏}‏ الثانية، أي‏:‏ ولما جاءهم كتاب من عند الله كفروا به، أو ‏{‏لما‏}‏ الثانية تأكيد للأولى‏.‏ والجواب‏:‏ ‏{‏كفروا به‏}‏، أو فلما وجوابها جواب الأولى، كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 123‏]‏ الآية، و‏{‏يستفتحون‏}‏ ينتصرون، وفي الحديث‏:‏ «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَستَفْتِحُ بِصعَالِيكِ المُهَاجِرينَ»، الذين لا مال لهم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اليهود، القرآن مصدقاً ‏{‏لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ من التوراة، أي‏:‏ موافقاً له وشاهداً له بالصحة، وقد كانوا قبل ظهوره يستنصرون على أعدائهم بالنبيّ الذي جاء به، فيقولون‏:‏ اللهم انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين‏:‏ ‏(‏قد أظلَّ زمانُ نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد وإرَم‏)‏، فلما ظهر وعرفوه كفروا به ‏{‏فَلَعْنَةُ الله‏}‏ عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم لُعنوا لكفرهم، فاللام في ‏{‏الْكَافِرِينَ‏}‏ للعهد، وهم كفار اليهود، أو للجنس، فتكون اللعنة عامة لكل كافر، ويدخلون فيها دخولاً أوليّاً، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ترى كثيراً من الناس إذا ذكر لهم الأولياء المتقدمون أقروهم وصدقوهم، وإذا ذكر لهم أولياء أهل زمانهم أنكروهم وجحدوهم، مع كونهم يستنصرون بأهل زمانهم في الجملة‏.‏ فهذه نزعة يهودية، آمنوا ببعض وكفروا ببعض‏.‏

والناس في إثبات الخصوصية ونفيها على ثلاثة أقسام‏:‏ قسم أثبتوها للمتقدمين، ونفوها عن المتأخرين، وهم أقبح العوام، وقسم أقروها قديماً وحديثاً، وقالوا‏:‏ إنهم أخفياء في زمانهم، فحرمهم الله بركتهم، وقوم أقروا الخصوصية في أهل زمانهم، وعرفوهم وظفروا بهم وعظموهم، وهم السعداء الذين أراد الله أن يوصلهم إليه ويقربهم إلى حضرته‏.‏ وفي الحكم‏:‏ «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 91‏]‏

‏{‏بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏90‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ بئس ونعم‏:‏ فعلان جامدان مختصان بالدخول على ما يدل على العموم، إما نكرة، فتنصب على التمييز المفسر للضمير الفاعل، أو معروف بأل الجنسية، فيرتفع على الفاعلية، تقول‏:‏ بئس رجلاً زيدٌ، وبئس الرجل زيد، ويذكر بعد ذلك المخصوص‏:‏ إما خبر عن مبتدأ مضمر، أو مبتدأ والخبر مقدم‏.‏ وإنما اخْتُصَّتَا بالدخول على ما يدل على العموم؛ لأن ‏{‏نعم‏}‏ مستوفية لجميع المدح، و‏{‏بئس‏}‏ مستوفية لجميع الذم‏.‏ فإذا قلت‏:‏ نعم الرجل زيد، فكأنك قلت‏:‏ استحق زيدٌ المدحَ الذي يكون في سائر جنسه، وكذلك تقول في بئس‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ المتصلة ببئس ونعم‏:‏ نكرة منصوبة على التمييز، أي‏:‏ بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم، وهو كفرهم، أو معرفة تامة مرفوعة على الفاعل، أي‏:‏ بئس الشيء شيء اشتروا به أنفسهم‏.‏ و‏{‏اشتروا‏}‏ هنا بمعنى باعوا، كشَروا على خلاف الأصل، وقد يمكن ان يبقى على أصله، على ما يأتي في بيان المعنى‏.‏

و ‏{‏بغيا‏}‏ مفعول من اجله ليكفروا، و‏{‏يكفرون‏}‏ حال من الفاعل في ‏{‏قالوا‏}‏، و‏{‏وراء‏}‏ في الأصل‏:‏ مصدر جُعل ظرفاً، ويضاف إلى الفاعل ويراد به ما يتوارى به وهو خلفه، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذلك عد من الأضداد، قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في شأن اليهود‏:‏ بئس شيئاً باعوا به حظ أنفسهم، وهو كفرهم بما أنزر الله، أو ‏{‏بئسما اشتروا به أنفسهم‏}‏ بحسب ظنهم، فإنهم ظنوا أنهم خلّصوا أنفسهم من العذاب بما فعلوا، وهو كفرهم بما أنزل الله على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم بغياً وحسداً أن يكون النبيّ من غيرهم، فانقلبوا ‏{‏بِغَضَبِ عَلَى غَضَبٍ‏}‏ للكفر والحسد لمن هو أفضل الخلق، أو لكفرهم بمحمد- عليه الصلاة والسلام- بعد عيسى عليه السلام، أو لتضييعهم التوراة، وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ أي‏:‏ يذلهم ويخزيهم في الدنيا والآخرة، بخلاف عذاب العاصي فإنه كفارة لذنوبه‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ‏}‏ لهؤلاء اليهود‏:‏ ‏{‏آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللّهُ‏}‏ على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ من التوراة، وهم ‏{‏يَكْفُرُونَ بِمَا ورَاءَهُ‏}‏ أي‏:‏ بما سواه، وهو القرآن، حال كونه ‏{‏مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ من التوراة ومهيمناً عليه‏.‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْل‏}‏ هذا الزمان، وهو محرم عليكم في التوراة، ‏{‏إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ‏}‏ به‏؟‏ فهذا يبطل دعواكم الإيمان بالتوراة؛ إذ الإيمان بالكتاب يقتضي العمل به، وإلاَّ كان دعوى، وإن فعله أسلافكم فأنتم راضون به وعازمون عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هي أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان، وأنكر على أهله يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان، وأنكر على أهله‏.‏

وكل وعيد توعد به أهل الكفران يتوعد به مَن ترك السلوك لمقام الإحسان، غير أن عذاب أهل الكفر حسي بدني، وعذاب أهل الحجاب معنوي قلبي‏.‏

فنقول فيمن رضي بعيبه وأقام على مرض قلبه وأنكر الأطباء ووجود أهل التربية، بئسما اشتروا به أنفسهم، وهو كفرهم بما أنزل الله من الخصوصية على قلوب أوليائه بغياً وحسداً، أو جهلاً وسوء ظن، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فباؤوا بغضب الحجاب على غضب البعد والارتياب، أو بغضب سقم القلوب على غضب الإصرار على المساوئ والعيوب‏.‏ ‏(‏من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر‏)‏ كما قال الشاذلي رضي الله عنه، ولا يصح التغلغل فيه إلا بصحبة أهله‏.‏ وللكافرين بالخصوصية عذاب الطمع وسجن الأكوان، وهما شجرة الذل والهوان‏.‏

وإذا قيل لهم‏:‏ آمنوا بما أنزل الله من أسرار الحقيقة وأنوار الطريقة، قالوا‏:‏ نؤمن بما أنزل علينا من ظواهر الشريعة، ويكفرون بما وراءه من أسرار الحقيقة، ككشف أسرار الذات وأنوار الصفات، وهو- أي‏:‏ علم الحقيقة- الحق؛ لأنه خالص لب الشريعة، ولله در صاحب المباحث الأصلية حيث قال‏:‏

هل ظاهِرُ الشرع وعلمُ الباطِنْ *** إلا كجِسمٍ فيه رُوحٌ سَاكِنْ‏؟‏

وقال أيضاً‏:‏

ما مَثلُ المعقولِ والمنقولِ *** إلا كَدُرِّ زاخرٍ مَجْهُولِ

حتى إذا أخْرَجَهُ الغِوَّاصُ *** لم يكُ لِلدُرِّ إذن خَلاصُ

وإنام خَلاصُهُ في الكَشْفِ *** عن الغِطَاءِ حيثُ لا يسْتَخْفِي

فَالصّدَفُ الظاهرُ ثم الدرُّ *** مَعْقولُه والجهلُ ذاك البحْرُ

وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول‏:‏ ‏(‏هل ثَمَّ شيءٌ غيرُ ما فهمناه من الكتاب والسنة‏؟‏‏)‏، كان يقول ذلك إذا قيل له‏:‏ إن الشيخ الشاذلي فاض اليوم بعلوم وأسرار، فلا التقى بالشيخ وأخذ بيده، قال‏:‏ ‏(‏أي والله‏.‏‏.‏‏.‏ ما قعد على قواعد الشريعة التي لا تنهدم إلا الصوفية‏)‏‏.‏ ويقال لمن ادعى التمسك بالشريعة وأنكر ما وراءها‏:‏ فلم تشتغل بجمع الدنيا واحتكارها وتخاف من الفقر، وتهتم بأمر الرزق وتجزع من المصائب، والشريعة تنادي عليك بذم ذلك كله إن كنت مؤمناً‏؟‏‏!‏‏!‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ حال من ‏{‏اتخذتم‏}‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى‏}‏ بالمعجزات الواضحات‏:‏ كالعصا واليد وفلق البحر، ثم لم ينجح ذلك فيكم، فاتخذتم العجل إلهاً تعبدونه من بعد ذهابه إلى الطور ‏{‏وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ في ذلك، فأين دعواكم الإيمان بالتوراة‏؟‏

الإشارة‏:‏ ويقال لمن أقام على عبيه، ورضي بمرض قلبه، حتى لقي الله بقلب سقيم‏:‏ لقد جاءتكم أوليائي بالآيات الواضحات، ولو لم يكن إلا شفاء المرضى على أيديهم- أعني مرضى القلوب- لكان كافياً، ثم اتخذتم الهوى إلهكم، وعبدتم العاجلة بقلوبكم، وعزَّتْ عليكم نفوسكم وفلوسكم، وأنتم ظالمون في الإقامة على مساوئكم وعيوبكم، مع وجود الطبيب لمن طلب الشفاء، وحسّن الظن وشهد الصفاء‏.‏ ‏(‏كن طالباً تجد مرشداً‏)‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏‏:‏ شرط حذف جوابه، أي‏:‏ إن كنتم مؤمنين فبئس ما يأمركم به إيمانكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ اذكروا أيضاً ‏{‏إذ أخذنا ميثاقكم‏}‏ أن تعملوا بالتوراة فأبيتم ‏{‏ورفعنا فوقكم‏}‏ جبل ‏{‏الطور‏}‏ وقلنا‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ واجتهاد ‏{‏واسمعوا‏}‏ ما أقول لكم فيه ‏{‏قالوا‏}‏ بلسان حالهم‏:‏ ‏{‏سمعنا‏}‏ قولك ‏{‏وعصينا‏}‏ أمرك، حيث لم يمتثلوا، أو بلسان المقال لسوء أدبهم، ‏{‏وأُشربوا في قلوبهم‏}‏ حب ‏{‏العجل‏}‏ حتى صبغ فيها ورسخ رسوخ الصبغ في الثوب، لأنهم كانوا مُجَسِّمَةً، ولم يروا منظراً أعجب من العجل الذي صنعه السامري، ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏بئسما يأمركما به إيمانكم‏}‏ بالتوراة الذي ادعيتموه، ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏، لكن الإيمان لا يأمر بهذا فلستم مؤمنين‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحقّ جلّ جلاله لمن ادعى كمال الإيمان، وهو منكر على أهل الإحسان، مع إقامته على عوائد نفسه، وكونه محجوباً بشهود حسه‏:‏ وإذا أخذنا ميثاقكم، بأن تجاهدوا نفوسكم، وتخرقوا عوائدكم لتدخلوا حضرة ربكم، ورفعنا فوق رؤوسكم سيوف التخويف، أو جبال التشويق، وأوضحنا لكم سواء الطريق، وقلنا لكم‏:‏ خذوا ما آتيناكم من خرق العوائد، واكتساب الفوائد، بجد واجتهاد، فأبيتم وعزَّت عليكم نُفوسكم، وقلتم بلسان حالكم‏:‏ سمعنا وعصينا، وأشربت قلوبكم حب العاجلة، وآثرتم الدنيا على الآخرة، بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏خالصة‏}‏ خبر كان، و‏{‏عند‏}‏ متعلق بكان على الأصح‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد لبني إسرائيل الذين ادعوا أن الجنة خاصة بهم‏:‏ ‏{‏إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله‏}‏ أي‏:‏ في غيبه، ‏{‏خالصة‏}‏ لكم ‏{‏من دون‏}‏ سائر ‏{‏الناس‏}‏، أو من دون المسلمين، ‏{‏فتمنوا الموت إن كنتم صادقين‏}‏ في اختصاصكم بهم، فإن العبد إذا تحقق أنه صائر إليها اشتاق إلى الموت الذي يوصل إليها، كما قال عمار رضي الله عنه عند موته‏:‏

الآنَ ألاقِي الأحِبَّهْ *** مُحَمَّداً وحِزْبَه

وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتضر‏:‏ ‏(‏جَاءَ حَبِيبٌ عَلَى فَاقَة، لاَ أَفْلَحَ مَنْ نَدِم‏)‏‏.‏

أي‏:‏ على التمني، أو على الدنيا‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يتمنوه أبداً‏}‏ بسبب ‏{‏ما قدمت أيديهم‏}‏ من الكفر والعصيان، فما تمناه أحد منهم قط، قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار‏)‏‏.‏ وقال في الأحياء‏:‏ ‏(‏دعا- عليه الصلاة والسلام- اليهود إلى تمني الموت، وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه، فحيل بينهم وبين النطق بذلك‏)‏‏.‏ وذكر غيره‏:‏ أن بعضهم تمناه، فما جاءت العشاء حتى أخذته الذّبحة في حلقه فمات‏.‏ ‏{‏والله عليم بالظالمين‏}‏، فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم، ونفيه عمن هو لهم‏.‏

الإشارة‏:‏ في هذه الآية ميزان صحيح توزن به الأعمال والأحوال ويتميز به المدعون من الأبطال، فكل عمل يهدمه الموت فهو مدخول، وكل حال يهزمه الموت فهو معلول، وكل من فرّ من الموت، فهو في دعواه المحبة كذاب، فمن ادعى الخصوصية على الناس يختبر بهذه الآية‏.‏

والناس في حب البقاء في الدنيا على أربعة أقسام‏:‏

رجل أحب البقاء في الدنيا لاغتنام لَذَّاته ونيل شهواته، قد طرح أخراه، وأكبَّ على دنياه، واتخذ إلهه هواه، فأصمه ذلك وأعماه، إن ذُكر له الموت فرّ عنه وشرد، وإن وعِظَ أنِف وعَنَدَ، عمره ينقص، وحرصه يزيد، وجسمه يبلى، وأمله جديد، وحتفه قريب، ومطلبه بعيد، فهذا إن لم تكن له عناية أزلية، وسابقة أولية فيمسك عليه الإيمان، ويختم له بالإسلام، وإلا فقد هلك‏.‏

ورجل قد أزيل عن عينه قذاها، وأبصر نفسه وهواها، وزجرها ونهاها، قد شمر ليتلافى ما فات، ونظر فيما هو آت، وتأهب لحلول الممات، والانتقال إلى محلة الأموات، ومع هذا فإنه يكره الموت أن يشاهد وقائعه، أو يرى طلائعه، وليس يكره الموت لذاته، ولا لأنه هَادِمْ لَذَّاتِهِ، لكنه يخاف أن يقطعه عن الاستعداد ليوم المعاد، ويكره أن تطوى صحيفةِ عَمَلِهِ قبل بلوغ أمله، وأن يبادر بأجله قبل صلاح خلله، فهو يريد البقاء في هذه الدار لقضاء هذه الأوطار، فهذا ما أفضل حياته‏:‏ وأطيب مماته‏!‏ لا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«مَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّهِ كره اللّهُ لِقَاءَه»‏.‏

ورجل آخر قد عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وشهد ما شهد من كمال الربوبية، وجمال حضرة الألوهية، فملأت عينه وقلبه، وأطاشت عقله ولبّه، فهو يحن إلى ذلك المشهد، ويستعجل إنجاز ذلك الموعد، قد علم أن الحياة الدنيوية حجابٌ بينه وبين محبوبة، وسترٌ مُسدل بينه وبين مطلوبه، فهذا من المحبين العشاق، قد حنّ إلى الوصال والتلاق، أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، فما أحسن حياته ولقاءه‏!‏

ورجل آخر قد شهد ما شاهد ذلك، وربما زاد على ما هنالك، لكنه فوّض الأمر إلى خالقه، وسلّم الأمر لبارئه، فلم يرض إلا ما رضي له، ولم يرد إلا ما أريد به، وما اختار إلا ما حكم به فيه، إن أبقاه في هذه الدار أبقاه، وإن أخذه فهو بغيته ومناه، فهذا من العارفين المقربين‏.‏ جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ومن الذين أشركوا‏}‏‏:‏ على حذف مضاف، أي‏:‏ وأحرص من الذين أشركوا، فيوقف عليه، و‏{‏لو يعمر‏}‏ مصدرية، أي‏:‏ يود أحدهم تعمير ألف سنة‏.‏ و‏{‏أن يعمر‏}‏ فاعل لمزحزحه، أي‏:‏ وما هو بمزحزحه من العذاب تعميره‏.‏

يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ ولتجدن يا محمد اليهود ‏{‏أحرص الناس‏}‏ على البقاء في هذه الدار الدنية، فكيف يزعمون أنهم أولى الناس بالجنة، ولتجدنهم أيضاً أحرص من المشركين على البقاء، مع كونهم لا يقرون بالجزاء، فدلَّ ذلك على أنهم صائرون إلى النار، فلذلك كرهوا اللقاء وحرصوا على البقاء، يتمنى أحدهم لو يعيش ‏{‏ألف سنة‏}‏ وليس ذلك ‏{‏بمزحزحه‏}‏ أي‏:‏ مبعده من العذاب، بل زيادة له في العقاب ‏{‏والله بصير بما يعملون‏}‏‏:‏ تهديد وتخويف‏.‏

الإشارة‏:‏ يفهم من سر الخطاب أن كل من قصر أمله، وحسن عمله، وطيب نفسه للقاء الحبيب، واشتغل في هذه اللحظة القصيرة بما يقربه من القريب، كان قربه من الله بقدر محبته للقائه، وكل من طوّل أمله، وحرص على البقاء في هذه الدار الفانية، كان بُعده من الله بقدر محبته للبقاء، إلا من أحب البقاء لزيادة الأعمال، أو الترقي في المقامات والأحوال، فلا بأس به، ويفهم منه أيضاً أن مَن اشتد حرصه على الحياة الفانية كانت فيه نزعة يهودية‏.‏

واعلم أن الناس، في طول الأمل وقصره، على قسمين‏:‏ منهم من طوّل في أمله فازداد في كسله، ودخله الوهن في عمله، وآخر قد قصر أملُه وجعل التقوى بضاعته، والعبادة صناعته، ولم يتجاوز بأمله ساعته، ومثل هذا قد رفع التوفيق عليه لواءه، وألبسه رداءه، وأعطاه جماله وبهاءه، فانظر رحمك الله أيّ الرجلين تريد أن تكون، وأي العملين تريد أن تعمل، وبأي الرداءين أن تشتمل‏؟‏ فلست تلبس هناك إلا ما تلبس هنا‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 98‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏97‏)‏ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من‏}‏ شرطية وجوابها محذوف، أي‏:‏ فليمت غيظاً، أو ‏{‏فإنه نزله‏}‏ على معنى‏:‏ مَن عادى منهم جبريل فقد خلع ريقة الإنصاف، أو كفر بما معه من الكتاب؛ لأنه نزل بكتاب مصدقاً لما قبله من الكتب، وجبريل فيه ثماني لغات، أربع قرئ بهن‏.‏ وهي‏:‏ جَبْرَئِيل كسلسبيل‏.‏ وجَبْرَئِل كجحْمرش، وجَبْريل- بفتح الجيم- بلا همز، وجِبْرِيل بكسرها، وأربع شواذ‏:‏ جِبْرَالُ، وجَبْرَائِيل، وجَبْرِائل، وجَبْرين بالنون، ومعناه‏:‏ عبد الله‏.‏ وفي ميكائيل أربع لغات‏:‏ مكيائيل ممدود، وميكائل مقصور، وميكئل مهموز مقصور، وميكال على وزن ميعاد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في الرد على اليهود، كابن صُوريا وغيره، حيث قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ من الذي يأتيك بالوحي‏؟‏ فقال‏:‏ «جبريل»، فقالوا‏:‏ ذلك عدونا من الملائكة؛ لأنه ينزل بالشدة والعذاب، ولو كان ميكائيل لاتبعناك؛ لأنه ينزل بالخصب والسلم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْريلَ‏}‏ فليمت غيظاً، فإنه هو الذي نزَّل القرآن ‏{‏عَلَى قَلْبِكَ بإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ من الكتب، وهداية ‏{‏وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏، فإن كان ينزل بالشدة والعذاب على الكافرين، فإنه ينزل بالهداية والبشارة على المؤمنين‏.‏

ومن كان عدواً لجبريل فإنه عدو لله، إذ هو رسوله للأنبياء، وصفيه من الملائكة، وعدو أيضاً لميكائيل فإنه وزيره، وللرسل أيضاً فإنه سفيرهم، و‏{‏مَن كَانَ عَدُوّاً للّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ‏}‏ فإن الله عدو له‏.‏ وعطف جبريل وميكائيل من عطف الخاص على العام لزيادة شرفهما، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏عَدُوٌّ لِّلْكَافِرينَ‏}‏ ولم يقل‏:‏ لهم، تسجيلاً عليهم بالكفر، وبيان أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر، عصمنا الله من موارد الردى، آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كانت معاداة الملائكة والرسل هي معاداة الله، فكذلك معاداةُ أوليائه هي معاداة الله أيضاً، ولذلك قال تعالى‏:‏ «مَنْ عَادَى لِي وَليّاً فقد آذنني بالحَرْب» فالبعض هو الكل، ويؤخذ بالمفهوم أن محبة الملائكة والرسل هي محبة الله‏.‏ وكذلك محبة أولياء الله هي محبة الله، وكذلك أيضاً محبة عباد الله هي محبة الله، ومعاداتهم معاداة الله‏.‏ «الخَلقُ عِيَالُ الله، وأحبُّ الخَلقِ إلى اللّهِ أنفعهُمْ لِعيَاله»‏.‏ وكل مَن ادعى أنه يحب الله وفي قلبه عداوة لمسلم فهو كاذب، وكل مَن ادعى أنه يعرف الله وفي قلبه إنكار على مخلوق فهو في دعواه أيضاً كاذب، فالواجب على العبد أن يُحب جميع العباد، من كان طائعاً فظاهر، ومَن كان عاصياً أحب له التوبة والإنابة، ومَن كان كافراً أحب له الإسلام والهداية، ولا يكره من العبد إلا فعله، ولله دَر القائل‏:‏

ارْحَمْ بُنَيَّ جَميعَ الخلقِ كُلِّهمُ *** وانْظُرْ إليْهمْ بعين الحِلمِ والشّفَقَهْ

وَقَّرْ كَبيرَهُم وارْحَمْ صغِيرَهُمْ *** وَراع في كُلّ خَلْقٍ مَنْ خَلَقَهْ

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏آيَاتٍ‏}‏ واضحات، مشتملة على علوم غيبية، وأخبار نبوية، وشرائع محكمة، وأنوار قدسية، وأسرار جبروتية، وما يجحدها ويكفر بها إلا المتمرد في الكفر والطغيان، الخارج عن الطاعة والإيمان، فالفسق، إذا استعمل في نوع من المعاصي، دلّ على أعظمه وأقبحه، وهو هنا الكفر، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن العبد إذا سبقت لهم من الله العناية، ألقى الله في قلبه التصديق والهداية، من غير أن يحتاج إلى علامة ولا آية، بل يكشف له الحق تعالى عن سر الخصوصية وأنوارها، فيشهد سره لصاحبها بالتقويم، وتخضع له روحه بالتعظيم، فتدبوا له أنوار الإيمان وتشرق عليه شموس العرفان، من غير توقف على دليل ولا برهان، بخلاف من سبق له الحرمان، فلا ينجح فيه دليل ولا برهان، والعياذ بالله من الخذلان‏.‏

ولما ذَكّر النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهود في شأن العهد الذي أخذه الله عليهم فيه، قال مالك بن الصيف‏:‏ والله ما عهد إلينا في محمد عهدٌ ولا ميثاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الهمزة للإنكار، والواو للعطف على محذوف تقديره‏:‏ أَكفروا بالآيات وكلما عاهدوا عهداً، و‏{‏كُلَّمَا‏}‏ منصوب على الظرفية، وهي متضمنة معنى الشرط فتفتقر للجواب، وهو العامل فيها‏.‏ والنبذ‏:‏ الطرح، لكنه يغلب فيما ينسى، قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في شأن اليهود والإنكار عليهم‏:‏ ‏{‏أَوَ كُلَّمَا‏}‏ أعطوا عهداً وعقدوه على أنفسهم طرحه ‏{‏فَرِيقٌ مِّنْهُمْ‏}‏ ‏؟‏ فقد أعطوا العهد أنهم إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فلما أدركوه نبذوا ذلك العهد ونسوه‏.‏ وكذلك أعطوا العهد للنبيَ صلى الله عليه وسلم ألا يعاونوا المشركين عليه، فنبذه بنو قريظة والنضير، ولم ينقضه جميعهم بل فريق منهم، وهم الأكثر، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏، فالأكثر هم الناقضون للعهود، المجاوزون للحدود‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ نقض العهد مع الله أو مع عباده من علامة النفاق، ومن شيم أهل البعاد والشقاق، والوفاء بالعهد من علامة الإيمان، ومن شيم أهل المحبة والعرفان‏.‏ قال تعالى في صفة المفلحين‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لأَمانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 8‏]‏، ولا سيما عهود الشيوخ؛ أهل التمكين والرسوخ، فمن أخذ عقد الصحبة مع الشيخ الذي هو أهل للتربية؛ فيحذر مِنْ حَلّ العقدة بينه وبينه، فإنَّ ذلك يقطع الإمداد، ويوجب الطرد والبعاد، والالتفات إلى غيره تسويس لبذرة الإرادة، وموجب لقطع الزيادة والإفادة، ثم إن الانجماع على الشيخ، وقطع النظر والالتفات إلى غيره هو سبب للكون- كذلك- مع الله، فبقدر الانقطاع إلى الشيخ يحصل الانقطاع إلى الله، وبقدر ترك الاختيار وسلب الإرادة مع الشيخ يحصل كذلك مع الله، وبقدر الوفاء بعهود شيوخ التربية يحصل الوفاء بعهود حقوق الربوبية‏.‏ فمن كانت غيبته في الشيخ أقوى، وانحياشه أليه أكثر، وجمعه عليه أدوم، كان كذلك مع ربه، وكذلك التعظيم والأدب، والله يعامل العبد على حسب ذلك‏.‏

قال الشيخ زَرُّوق رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏ولا تنتقلْ عنه، ولو رأيت من هو أعلى منه، فتحرمَ بركة الأول والثاني‏)‏، ولذلك كان المشايخ يمنعون أصحابهم من صحبة غيرهم، بل من زيارتهم، وأنشدوا‏:‏

خُذْ مَا تَراهُ ودَعْ شَيْئاً سَمِعتَ بِهِ *** في طلْعَةِ البدرِ ما يُغنيكَ عن زُحَلِ

وحاصل أمر الزيارة لغير شيخه أن فيه تفصيلاً‏:‏ فمن كَمُل صدقه، وتوفر عقله، بحيث إذا زار لا يستنقص شيخه، ولا الذي زاره، جاز له أن يزور من شاء، ومن لم يكمل صِدقُهُ وعقله، بحيث إذا زار‏:‏ إما يستنقص شيخه، أو الشيخ الذي زاره، فليكف عن زيارة غير شيخه‏.‏ وقال محيي الدين بن العربي‏:‏ ويجب على المريد أن يعتقد في شيخه أنه عالم بالله، ناصح لخلق الله، ولا ينبغي له أن يعتقد في شيخه العصمة‏.‏ وقد قيل للجنيد‏:‏ أيزني العارف‏؟‏ فقال‏:‏

‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزَاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وصحب تلميذ شيخاً، فرآه يوماً قد زنا بامرأة، فلم يتغير من خدمته، ولا أخلّ في شيء من مرسومات شيخه، ولا ظهر منه نقص في احترامه‏.‏ وقد عرف الشيخ أنه رآه، فقال له يوماً‏:‏ يا بني قد عَرَفْتُ أنك رأيتني حين فسقتُ بتلك المرأة، وكنت أنتظر فراقك عني من أجل ذلك‏:‏ فقال له التلميذ‏:‏ يا سيدي الإنسان معرض لمجاري أقدار الله عليه، وإني من الوقت الذي دخلت فيه إلى خدمتك ما خدمتك على أنك معصوم، وإنما خدمتك على أنك عارف بطريق الله تعالى، عارف بكيفية السلوك عليه الذي هو طلبي، وكونك تعصي أو لا تعصي شيء بينك وبين الله عزّ وجلّ، لا يرجع من ذلك شيء عَلَيَّ، فما وقع منك يا سيدي شيء لا يوجب نفاري وزوالي عنك، وهذا هو عَقْدي، فقال له الشيخ‏:‏ وفقت وسعدت هكذا وإلا فلا‏.‏‏.‏‏.‏ فربح ذلك التلميذ، وجاء منه ما تَقَرُّ بِهِ العين من حسن الحال وعُلوِّ المقام‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ يعني اليهود ‏{‏رَسُولٌ مّشنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ من التوراة بموافقته له في بعض الأخبار ‏{‏نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أثوتُوا الْكِتابَ‏}‏، وهم من كفر من أحبار يهود، ‏{‏كِتَابَ اللّهِ‏}‏‏:‏ التوراة، ‏{‏وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏، حيث لم يعملوا بما فيه من الأمر بالإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وغيروا صفته التي فيه، وكتموها، فكأنهم طرحوه وراء ظهورهم، وكأنهم لا علم لهم بشيء من ذلك‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ اعلم أن الحق تعالى دل على أن حال اليهود أربع فرق‏:‏ فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏البَقَرة‏:‏ 100‏]‏، وفرقة جاهروا بنبذ عهودها، وتخطي حدودها، تمرداً وفسوقاً، وهم المعنيون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 100‏]‏، وفرقة لم يجاهروا بنبذها، ولكن نبذوا لجهلهم بها، وهم الأكثرون، وفرقة تمسكوا بها ظاهراً، ونبذوها خفية، عالمين بالحال بَغْياً وعناداً، وهم المتجاهلون‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ولعلهم المنافقون منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ‏}‏ على حذف مضاف، أي‏:‏ على عهد ملك سليمان، أو ‏{‏عَلَى‏}‏ بمعنى ‏{‏في‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنزِل‏}‏ عطفٌ على السحر، عَطْفَ تفسير، والفتنة في الأصل‏:‏ الاختبار، تقول‏:‏ فتنت الذهب والفضة إذا أدخلتهما النار لتعلم جودتهما من رداءتهما، وقوله‏:‏ ‏{‏لَمَثُوبَةٌ‏}‏ جواب ‏{‏لَّوْ‏}‏، والأصل‏:‏ لأثِيبوا، ثم عَدَلَ إلى الجملة الاسمية لتدل على الثبوت‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في شأن اليهود‏:‏ ولما جاءهم كتاب من عند الله نبذوه ‏{‏وَاتَّبَعُوا‏}‏ ما تقرأ ‏{‏الشَّيَاطِينُ‏}‏ على الناس من السحر ‏{‏عَلَى‏}‏ عهد ‏{‏مُلْكِ سُلَيْمَانَ‏}‏، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب، ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدونونها ويعلمونها الناس، وفَشَا ذلك في عهد سليمان حتى قيل‏:‏ إن الجن يعلم الغيب، وإن ملك سليما إنما قام بهذا، وأنه به سخر الجن والإنس والريح، فجمع سليمان ما دُوِّن منه ودفنه، فاستخرجته الشياطين بعد موته، فردَّ الله تعالى قولهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ‏}‏ باستعمال السحر؛ لأنه تعظيم غير الله بالتقرب للشيطان، والنبيّ معصوم ‏{‏وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ‏}‏ هم الذين ‏{‏كَفَرُوا‏}‏ باستعماله ‏{‏يُعلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ‏}‏ إغواء وإضلالاً، ويعلمون ‏{‏مَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَينِ‏}‏ في بلد بابل من سواد الكوفة، وهما ‏{‏هَارُوتَ وَمَارُوتَ‏}‏‏.‏

كانا ملكين من أعبد الملائكة، ولما رأت الملائكة ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام عيروهم بذلك، وقالوا‏:‏ يا ربنا هؤلاء الذين جعلهم خليفة في الأرض يعصونك‏؟‏ فقال الله تعالى‏:‏ لو أنزلتكم إلى الأرض، وركَّبْتُ فيكم ما ركبت ُ فيهم لارتكبتم ما ارتكبوا، قالوا‏:‏ سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك‏.‏ فقال الله تعالى‏:‏ فاختاروا ملكين من خِياركم أُهبطهما إلى الأرض‏.‏ فاختاروا هاروت وماروت، وكانا من أعبد الملائكة، فركّب الله تعالى فيهما الشهوة، وأمرهما أن يحكما في الأرض بين الناس بالحق، في الأرض بين الناس بالحق، ونهاهما في الشرك والقتل بغير الحق، والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، فاختصمت إليهما ذات يوم امرأة يقال لها الزهرة‏:‏ وكانت من أجمل النساء من أهل فارس، فأخذت بقلبيهما، فراوداها عن نفسها، فأبت ثم عاودت في اليوم الثاني، ففعلا مثل ذلك فأبت، وقالت‏:‏ إلا أن تعبدا ما أعبد، وتصليا لهذا الصنم، وتقتلا النفس وتشربا الخمر، فأبيا هذه الأشياء، وقالا‏:‏ إن الله نهاهنا عنها، فانصرفت، ثم عادت في اليوم الثالث، فراداها، فعرضت عليهما ما قالت بالأمس، فقالا‏:‏ الصلاة لغير الله ذنب عظيم، وأهونُ الثلاث شرب الخمر، فشربا، وانتشيا، ووقعا بالمرأة، فلما فرغا رآهما إنسان فخاف أن يظهر عليهما فقتلاه‏.‏

وفي رواية عن سيّدنا عليّ- كرّم الله وجهه- أنه قال‏:‏ ‏(‏قالت لهما‏:‏ لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء، فقالا‏:‏ باسم الله الأعظم، فعلماها ذلك، فتكلمت به، وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً‏)‏‏.‏

ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى سهيلاً قال‏:‏ «لَعَنَ اللّهُ سُهيلاً؛ كَانَ عَشَّاراً بِاليمن، ولَعَنَ اللّهُ الزهْرةَ، وقال‏:‏ إِنَها فتنت مَلَكَين»‏.‏

قلت‏:‏ قصة هارون وماروت ذكرها المنذري في شرب الخمر، وقال في حديثها‏:‏ رواه أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق زهير بن محمد، وقد قيل‏:‏ إن الصحيح وقفه على كعب‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن حجر‏:‏ قصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن، خلافاً لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه‏.‏

وتمام قصتهما‏:‏ أنهما لما قارفا الذنب وجاء المساء همّا بالصعود، فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حلّ بهما، فقصدا إدريس عليه السلام، فأخبراه، وسألاه الشفاعة إلى الله تعالى فشفع فيهما، فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعه، فهما يعذبان في بئر ببابل، منكسان معلقان بالسلاسل من أجر لهما، مزرقة أعينهما، ليس بينهما وبين الماء إلا قدر أربعة أصابع، وهما يعذبان بالعطش‏.‏ ه‏.‏ فإن قلت‏:‏ الملائكة معصومون فكيف يصح هذا من هاروت وماروت‏؟‏ قلنا‏:‏ لما ركب الله فيهما الشهوة النسلخا من حكم المَلَكيَّة إلى حكم البشرية ابتلاء من الله تعالى لهما، فلم يبق لهما حكم الملائكة من العصمة‏.‏ ‏{‏وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدِ‏}‏ السحر حتى ينصحاه ويقولا‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ‏}‏ لكم، واختبار من الله تعالى لعباده، ليظهر من يصبر عنه ومن لا يصبر، وكان تعلمه في ذلك الوقت كفراً، فيقولان له‏:‏ ‏{‏فَلا تَكْفُرْ‏}‏ بتعلُّمه، فكانوا يتعلمون ‏{‏مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ وقدرته، فلا تأثير لشيء إلا بإذن الله، ويتعلمون منهما ‏{‏مَا يَضُرُّهُمْ‏}‏ يوم القيامة ‏{‏وَلا يَنفَعُهُمْ‏}‏، ولقد علم بنو إسرائيل أن من اشتراه واستبدله بكتاب الله والعلم بما فيه ‏{‏مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ‏}‏ نصيب، ‏{‏وَلَبِئْسَ‏}‏ ما باعوا به حظ أنفسهم من النعيم ‏{‏لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏، ولكن لما لم يعملوا بعلمهم كانوا كمن لا علم عنده‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ آمنُوا‏}‏ بالله ورسوله ‏{‏وَاتَّقَوْا‏}‏ الكفر والسحر، لأثيبوا ثواباً كبيراً، وكان ذلك خيراً لهم ما استوجبوه من العقاب ‏{‏لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أكَبُّ على دنياه وتتبع حظوظه وهواه، وترك العمل بما جاء من عند الله، يصدق عليه أنه نبذ كتاب الله، واشتغل بما سواه من حب الدنيا والرئاسة والجاه، فالدنيا سحارة غرارة، تسحر القلوب وتغيبها عن حضرة علام الغيوب وفي الحديث‏:‏ «اتَقُوا الدُّنْيَا فإنْهَا أسْحَرُ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ»، ولا شك أنها تفرق بين الأحباب وبين العشائر والأصحاب، ولقد علم من أخذ الدنيا ونعيمها، وأكب عليها ما له في الآخرة من نصيب، فبقدر ما يأخذ من نعيم الدنيا وشهواتها ينقص له من نعيم الآخرة‏.‏

ولبئس ما شروا به أنفسهم- حيث آثروا الحياة الدنيا على الآخرة- لو كانوا يعلمون‏.‏ ولو أنهم آمنوا بالله، واتقوا كل ما يشغل عن الله لكانوا من أولياء الله، وتلك المثوبة- التي صاروا إليها- خير لو كان يعلمون‏.‏

قال عبد الواحد بن زيد‏:‏ سمعت أن جارية مجنونة في خراب الأُبُلَّةِ تنطق بالحِكَم، فطلبتها حتى وجدتها، وهي محلوقة الرأس، وعليها جبة صوف، فلما رأتني قال‏:‏ مَرحباً بك يا عبد الواحد، ثم قالت‏:‏ يا عبد الواحد ما جاء بك‏؟‏ فقلت‏:‏ تعظينني، فقالت‏:‏ واعجباً لواعظ، يوعظ، يا عبد الواحد‏.‏‏.‏‏.‏ اعلم أن العبد إذا كان في كفاية، ومال إلى شيء من الدنيا، سلبه الله حلاوة الزهد، وظل حيراناً وَلِهاً، فإن كان له عند الله نصيب عاتبه وَحْياً في سره، فيقول له‏:‏ عبدي أردت رفع قدرك عند ملائكتي، وأجعلك دليلاً لأوليائي، ومرشداً لأهل طاعتي، فملت إلى عرض الدنيا وتركتني، فأورثك ذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، ارْجَعْ إلى ما كنت عليه أُرجع إليك ما كنت تعرفه من نفسك‏.‏ ثم انصرفت عني وتركتني وبقيت حسرتها في قلبي‏.‏ ه‏.‏

ولما كان المسلمون يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ راعنا يا رسول الله وأرْعِنا سَمْعَكَ، يَعْنُون من المراعاة والأنتظار، وهي عند اليهود سب من الرعونة، ففرحت اليهود، وقالوا‏:‏ كنا نسب محمداً سرّاً، فأعلنوا له بالشتم، فكانوا يقولون‏:‏ يا محمد راعنا ويضحكون، نهى الله تعالى المسلمين عن هذه اللفظة‏.‏